Wednesday, July 19, 2017

كنا هناك .. بين صراع مضى وإرث بقى




كنا هناك .. بين صراع مضى وإرث بقى

ست رحلات قام بها إبراهيم المليفي تتلمس بقايا الوجود الإسلامي في المناطق الأوروبية روحا أو حرفا، مئذنة أو نخيلا

بقلم: أحمد فضل شبلول

لأدب الرحلات مكانة مهمة في تاريخ الأدب العربي، منذ أن أخذ الأدباء العرب يجوبون الآفاق ويخرجون من ديارهم تجوالا وبحثا عن المعرفة والتعرف على الآخر والحوار معه، وكان من أشهر هؤلاء الرحالة العرب الذين دونوا رحلاتهم بأسلوب أدبي شيق الرحالة المغربي ابن بطوطة، والرحالة ابن جبير، وابن فضلان، وغيرهم.

إن حب الاستطلاع والمعرفة وحب الحياة لدى الإنسان تجعله يعشق الرحلات والإبحار إلى المجهول، وقد أشار عدد من الشعراء في بعض قصائدهم إلى أهمية السفر والترحال والتغرب في طلب العلم والمعرفة والتعارف واكتساب المعيشة، فقال الإمام الشافعي على سبيل المثال:

تغرَّب عن الأوطانِ في طلب العلا ** وسافرْ .. ففي الأسفارِ خمسُ فوائد

تفرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ ** وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ

وقد عمد الكثير من الأدباء الذين يحبون السفر ويعشقونه الى تدوين رحلاتهم في كتب اتسعت من خلالها رقعة "أدب الرحلات" في العصر الحديث، ولعل أشهر هذه الكتب كانت كتب أنيس منصور مثل "مائة يوم حول العالم" وغيره.

ولأهمية هذا الأدب في العصر الحديث عمدت بعض المجلات الثقافية الكبرى في وطننا العربي إلى تخصيص باب ثابت فيها حول تلك الرحلات والاستطلاعات المصورة، وتقف مجلة "العربي" الكويتية على رأس هذه المجلات، وقد قدمت المجلة على مدى تاريخها الممتد لأكثر من 55 عاما عددا وافرا من أدب الرحلات والاستطلاعات وساهم أكثر من محرر في تلك الرحلات، يأتي من ضمنهم الكاتب الكويتي إبراهيم المليفي الذي قام مؤخرا بجمع رحلاته واستطلاعاته في كتاب يحمل عنوان "كنا هناك .. صراع مضى وإرث بقى" حملت الطابع المتوسطي.

أو كما جاء على ظهر غلاف الكتاب الصادر عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بالكويت: "هذه ست رحلات تجتمع كلها بحثا عن هدف رئيسي هو تلمس بقايا الوجود الإسلامي في المناطق الأوروبية روحا أو حرفا، مئذنة أو نخيلا، نشرت على مدى ست سنوات في مجلة العربي الثقافية بين عامي 2005 إلى 2011، ووقع الاختيار جغرافيا على الجزر الهامة في البحر الأبيض المتوسط ودول استوطنها المسلمون لفترات زمنية متفاوتة ثم تركوها أو طردوا منها ما عدا بلدا وحيدا لازال يشكل المسلمون غالبية سكانه هو البوسنة والهرسك".

إذن هناك قضية ما وهدف رئيسي وراء جمع هذه الرحلات، فليس الأمر مجرد تجميع ما سبق نشره في المجلة، ولكن هناك رؤية وفكر ورسالة خلف هذه الرحلات الست.

وتأتي الرحلة إلى البوسنة والهرسك "نار تحت الرماد" لتكون أطول رحلات هذا الكتاب حيث احتلت 40 صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة 134 صفحة، ولعل هذه الصفحات تضع أيدينا على تاريخ ومكونات ونشأة تلك الدولة ذات الأغلبية المسلمة في قلب أوروبا والتي يتكون اسمها من اسم بلدين اندمجتا معا هما "البوسنة والهرسك" وان كانت مساحة البوسنة هي الأكبر.

ويؤكد المليفي ان حضور إحياء ذكرى مرور عشر سنوات على جريمة التطهير العرقي في بلدة سريبينتشا هي سنام رحلته إلى البوسنة والهرسك، ومن أجلها ذهب مع مصور المجلة.

غير أن الكتاب ـ للأسف ـ يفتقد إلى تلك الصور المصاحبة للرحلة والتي بالتأكيد سنرى بعضها منشورا في العدد 563 (أكتوبر/ تشرين الأول 2005) من مجلة العربي.

لقد عاصرنا جميعا مأساة البوسنة والهرسك أثناء التسعينيات بعد أن اندلعت حرب شرسة بسبب التعصب الديني والطائفي في تلك البلاد الجميلة، وتأتي عناوين رحلة المليفي لتضع تصوراتها حول تلك الحرب والمآسي والمجازر والمعاناة التي عاشها شعب البوسنة والهرسك خلال تلك السنوات الصعبة، ومن هذه العناوين المعبرة: الجروح تلتئم ببطء، إبادة كل 40 عاما، سريبينتشا .. يوم الدفن بكرامة، ملفات ساخنة مفتوحة، هذا الى جانب بعض الحوارات التي أجراها الكاتب مع بعض الشخصيات المؤثرة مثل الشيخ الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة والهرسك والذي تلقى تعليمه في القاهرة.

ويرى رئيس علماء البوسنة والهرسك أن هناك في الغرب من سيبقى حاقدا على الإسلام والمسلمين، وهؤلاء لا نستطيع تغيير عقولهم ولا أريد الانشغال بهم، وعلى العكس هناك في الغرب من لا يكرهوننا ويريدون صداقتنا، وفي العالم الإسلامي الشيء نفسه تماما هناك من يحقد على الغرب ومن يريد صداقته والتعامل معه.

ويلتقى الكاتب الكويتي إبراهيم المليفي في هذه الرحلة الدكتور حارث سيلادزيتش الذي تولى مهام الخارجية ورئاسة الحكومة أيام الحرب، ولعب مع الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش دورا مهما في إخراج البوسنة والهرسك من مستنقع التقسيم العرقي والديني، ويرى سيلادزيتش أن اتفاقية دايتون تعرقل تقدمهم السياسي والاقتصادي، ويؤكد أن التركيبة السياسية والإدارية التي شيدت على أساس اتفاقية دايتون لا بد أن تستبدل ومطلوب من الاتحاد الأوروبي العمل على تحقيق ذلك.

وتتنوع الرحلات في هذا الكتاب لتشمل دولا أخرى ومناطق مازلت ملتهبة في حوض البحر المتوسط مثل قبرص والهوية المنشقة، حيث لا تزال قبرص تتنازعها هويتان يونانية وتركية، مع اقتراح بالحل الممكن حيث يفضل أتراك قبرص أن يكون الحل تحت مظلة الأمم المتحدة بشرط الاعتراف، ولو شكليا، بالجمهورية القائمة في الشمال، وهم يهدفون من إقحام المنظمة الأممية في المسألة القبرصية إلى محاصرة القبارصة اليونانيين وإحراجهم أمام المجتمع الدولي كونهم مستفيدين من الوضع الحالي، كما ستتمكن جمهورية شمال قبرص من التحرك على الساحة الدولية بعد زوال الحرج عن الكثير من الدول التي لا تريد إغضاب دول الاتحاد الأوروبي.

ومن قبرص إلى صقلية الإسلامية ورحلة تحت عنوان "اندثار الأثر ونحيب النخيل"، ومنها إلى "مالطا .. وطن يسكن قلعة"، ثم إلى "روندة ومرثية الزمان وقصة المكان" والعروج على قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء المدينة، والتي يقول في مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان ** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانً

هي الأيام كما شاهدتُها دولٌ ** من سرَّه زمنٌ ساءته أزمان

والتي يقول فيها:

بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم ** واليوم هم في بلاد الكفر عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ** عليهم من ثياب الذل ألوانُ

ولو رأيت بكاهم عند بيعهمُ ** لهالك الأمرُ واستهوتك أحزانُ

ويختتم المليفي رحلاته في هذه الكتاب برحلة أندلسية فوق تقاطعات الزمن، حيث تتراكم خيارات الشغوفين بما تبقى من الأزمان الغابرة فوق أماكن محددة ثابنة: جامع قرطبة الفسيح، وقصور الحمراء الفاتنة، ومئذنة الخيرالدا بإشبيليه، لا يأبهون بالروائع الأخرى التي لا تقل أهميتها عنها ولا يذكرون أن البرتغال كما إسبانيا حاضنة أخرى لآثار الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس، ومن ثم فهو يتجه غربا إلى البرتغال سائرا على خطى القائد عبدالعزيز بن موسى، وهو من أشهر قادة الفتح الإسلامي في الأندلس، وأول وال تولى زمام أمورها بعد ذهاب والده موسى بن نصير ومعه طارق بن زياد إلى دمشق.