لقد نكل الله بالخلافة العباسية عندما استعان الخليفة المعتصم بالجنود الأتراك في محاولة منه لإبعاد التأثير الفارسي فكرا وجندا وإدارة، ولكثرة ما جلب منهم ضاقت بهم بغداد وأهلها، فشيد لهم مدينة سامراء درءا لشرورهم في عاصمة الخلافة، فهم قوم أفظاظ غلاظ لا يعرفون من المدنية أو الخلق ما يستقيم معه جمعهم مع سكان المدن، فلو جاع أحدهم أكل ما يريده غصبا، وإن مرت حسناء بطريقهم لا يتورعون عن تحسسها
ورغم تطور الزمان عجزت حضارة بغداد عن استيعاب الترك، وظلوا على طبائعهم أقرب إلى آلات القتل حتى انقلبوا على خلفاء صانعهم المعتصم فقتلوا منهم كالمقتدر، وسملوا عيني القاهر بالله، واستحوذوا على صلاحيات خليفة المسلمين، ولم يتركوا له سوى الدعاء بالمساجد وسك الدنانير باسمه، وهو ما أفضى إلى تفكك الدولة المترامية واستفراد كل وال تركي ببلد من بلاد العرب والمسلمين مثل مصر التي ابتلعها أحمد بن طولون
وربما يقول قائل ما فائدة استرجاع الماضي البعيد وإغفال ايجابيات الماضي القريب والحاضر المعاش الذي شهد دخول تركيا إلى نادي القضية الفلسطينية؟ الجواب في الشطر الأول تاريخي ولولا ضيق المساحة لتوسعنا في الإجابة، فالماضي القريب المتصل بالدولة العلية العثمانية التي هيمنت على العالم العربي حتى بدايات القرن العشرين لا نذكر منه غير العزلة المفروضة من العالم الخارجي طوال تلك المدة والضعف التدريجي للحواضر العربية التي كانت فيما مضى منارات للعلم حتى كدنا نلامس الجاهلية الأولى، ونذكر كيف أفسد الأتراك بفوقيتهم المتأصلة علاقتنا الودية مع المسيحيين المشارقة خصوصا في بلاد الشام وحتى نحن لم نسلم منهم
ولولا مدافع نابليون في الحملة الفرنسية على مصر لما عرف المسلمون أن الدنيا تغيرت، وأن الأوربيين الذين يعتبرون الطب من عمل الشيطان تفوقوا عليهم علما وعقلا، ويمتلكون سلاحا مدويا جعل الحاميات التركية المتسلحة بالسيف والشنبات الطويلة أضحوكة عسكرية أمام الفرنسيين، بعدها أتتنا عساكر الاستعمار الأوروبي لتنهش أوطاننا ومن بينها فلسطين التي لم يعرف الصهاينة طريقها سوى عبر الباب العالي
أما اليوم وبعد أكثر من ستين عاما جاءنا رجب الفاتح أردوغان ومن حوله جمهور عربي يصفق بحرارة، منه من يراه بسذاجة مجددا لدولة الخلافة، ومنه من يريده بخبث بديلا عن الدور الإيراني في المنطقة، ونسوا جميعهم أن الأتراك لم يلتفتوا إلينا إلا بعد أن ملوا من 'الشقلبة' أمام الاتحاد الأوروبي كي يقبل بعضويتها، كما تعاموا عن حقيقة وجود حامي حمى العلمانية في تركيا، وهو الجيش الذي لم يصمت على الاندفاع نحو العالم الإسلامي إلا لأن 'الشقلبة' مفيدة في المرحلة الحالية، ولو تجاوز أردوغان الحد المسموح فلن يكون مصيره أفضل من أربكان وحزب الرفاه الإسلامي
إن الأتراك ببساطة لم يدخلوا نادي القضية الفلسطينية إلا للرد على الإهانة الإسرائيلية لسفيرهم من خلال تسيير قافلة الحرية إلى غزة كما لم يدخلوا في وفاق مع الإيرانيين إلا ليثبتوا للغرب قوتهم الإقليمية فهل فهمنا الدرس؟
الفقرة الأخيرة : الحرية لحرية التعبير، الحرية لسجين الرأي الكاتب محمد عبدالقادر الجاسم
No comments:
Post a Comment